
منذ أجيال بعيدة، ظل الخشب رفيق درب البحارة والحرفيين في تشييد القوارب التي تقاوم عواصف البحر وتحتضن أحلام الصيادين في عرض المياه.
وعلى الرغم من تطور المواد الصناعية ودخول الألياف الزجاجية والمعادن إلى مجال صناعة القوارب، فإن الخشب لا يزال يحتفظ بمكانة خاصة لدى العديد من البحارة، خصوصًا في بعض المناطق الساحلية المغربية، حيث يظل الاختيار الأول لصناعة قوارب الصيد التقليدي. فما سر هذا الارتباط العريق؟ ولماذا يصرّ البحارة على التمسك بالخشب دون غيره؟
الخشب ليس مجرد مادة خام بالنسبة لهؤلاء الحرفيين، بل هو جزء من هوية وثقافة بحرية متجذرة، تتناقلها الأجيال من الجد إلى الحفيد. فاختيار نوعية الخشب لا يتم بطريقة عشوائية، بل هو علم قائم بذاته، تحكمه تجارب طويلة ومعرفة دقيقة بخصائص كل نوع من الأخشاب. وغالبًا ما يُفضل البحارة أخشابًا بعينها، مثل “الأرو” و”السرو” و”الأرز”، نظرًا لصلابتها وقدرتها على مقاومة مياه البحر دون أن تتآكل بسرعة.
وتُعد قابلية الخشب للإصلاح من أبرز أسباب هذا التمسك به. فحين يتعرض القارب لعطب أو كسر، يمكن إصلاح الجزء المتضرر دون الحاجة إلى تغيير كامل الهيكل، وهو ما يوفر على البحارة مصاريف كبيرة في ظل قلة الدعم المالي وغلاء أسعار القوارب المصنعة بمواد حديثة.
كما أن العمل بالخشب يسمح بمرونة في التصميم، حيث يمكن تشكيل القارب يدويًا بما يتماشى مع طبيعة البحر والمنطقة المستعملة فيه، سواء أكانت عميقة أو ضحلة أو كثيرة الصخور.
ويتحدث البحارة أيضًا عن “الدفء” الذي يمنحه الخشب في البحر، إذ يقولون إن القارب الخشبي يتفاعل مع البحر ويتناغم مع أمواجه، خلافًا للقوارب المصنوعة من الألياف الزجاجية التي توصف بأنها باردة وقاسية. هذه العلاقة الحسية تجعل من القارب الخشبي كائنًا حيًا بنظرهم، له روح وشخصية، ويكاد يكون شريكًا في كل رحلة صيد.
ومع ذلك، لا يخلو هذا الخيار من التحديات. فصيانة القوارب الخشبية تتطلب جهدًا ووقتًا ومهارة، كما أن جودة الخشب وأسعاره باتت تشكل عائقًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، في ظل تراجع الغابات وتزايد الطلب على الخشب لأغراض أخرى. ومع كل هذه الصعوبات، يبقى عشق الخشب راسخًا في وجدان عدد من البحارة، الذين يرفضون استبداله بأي مادة أخرى، رغم كل المغريات.
هكذا، يتجسد في اختيار الخشب لصناعة القوارب مزيج من الحكمة التقليدية والعلاقة الروحية مع البحر، ويظل هذا الإرث الحرفي شاهدًا على تميز حضاري وثقافي لا يمكن فصله عن هوية الصيادين وسكان السواحل.
البحر24- خــــــاص
البحر 24 نافذتكم على عالم البحر وشؤونه