موانئ أفريقيا دور أساسي في مبادرة «الحزام والطريق (BRI)»، التي تهدف إلى مدّ شبكة مترامية الأطراف من مشاريع البنية التحتية لربط أوروبا وشرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا. ومع إطلاق المبادرة في عام 2013، سعى الرئيس شي إلى فتح أسواق جديدة أمام بلاده، وتوسيع نفوذ بلاده السياسي على الصعيد العالمي، وتأمين الانتشار العسكري وحرية التنقل، وبسط السيطرة الصينية على موانئ العالم، بما فيهم بالتأكيد موانئ أفريقيا.
ولأن الاستثمارات الصينية في موانئ أفريقيا تعتبر العمود الفقري لطريق الحرير البحري، يضم المشروع 42 ميناءً في 34 دولة حول العالم، من سريلانكا إلى تنزانيا ومن البرازيل إلى اليونان، ومن جيبوتي إلى إسرائيل. تخدم هذه الموانئ الأهداف العسكرية والتجارية والسياسية الصينية الأوسع، ليس فقط باعتبارها بوابة للنمو التجاري والاقتصادي، بل أيضًا كأداة تأثير ونفوذ سياسي في القارة، وتوفر موطئ قدم لأنشطة «جيش التحرير الشعبي الصيني (PLAN)».
خريطة الاستثمارات الصينية في موانئ أفريقيا
للكيانات الصينية بصمة واضحة فيما لا يقل عن 46 مشروع ميناء حالي أو مخطط له في أفريقيا جنوب الصحراء، سواء من خلال التمويل أو البناء أو التشغيل. وتنتشر الاستثمارات الصينية في حوالي 17% من 172 ميناء في أفريقيا جنوب الصحراء بحسب مؤشر الموانئ العالمية لعام 2017، وتمول الكيانات الصينية 27 من أصل 46 هي موانئ أفريقيا جنوب الصحراء، وتدير 75% من هذه موانئ أفريقيا التي تمولها، وفي الأصل أنشأت الكيانات الصينية 90% من هذه الموانئ. وتشغل الكيانات الصينية 11 من أصل 46 ميناء، هي موانئ أفريقيا جنوب الصحراء، تقع سبعة منها على الساحل الغربي، وأربعة على الساحل الشرقي.
جيبوتي
تسيطر الصين حاليًا على اثنين من المحطات الخمس في ميناء جيبوتي الواقعة على مدخل البحر الأحمر، إذ يعبر حوالي 12% من إجمالي التجارة البحرية على متن عشرات السفن التي تستخدم قناة السويس.
ولا توجد موانئ أخرى على طول ساحل شرق أفريقيا لديها بنية تحتية مؤهلة للتعامل مع البضائع وتخزينها وتداولها بين السفن، كما أنها بوابة لأسواق شرق أفريقيا، تتيح إمكانية زيادة حجم الواردات والصادرات. هذا الموقع المتميز في القرن الأفريقي يمنح هذا البلد والميناء أهمية إستراتيجية للدول التي تتطلع لممارسة النفوذ في جميع أنحاء المنطقة. وقد استغلت جيبوتي موقعها المتميز لعقد صفقات مربحة مع القوى العالمية والناشئة.
“واشنطن بوست”: لفهم التغلغل الصيني في أفريقيا.. انظر إلى جيبوتي
فالولايات المتحدة لديها منشأة عسكرية بالقرب من الميناء تستخدمها لمراقبة حركة المرور البحرية المرتبطة بالشرق الأوسط، كما أنها عنصر أساسي في جهودها لمكافحة حركة الشباب. والصين لديها أيضا قاعدة عسكرية في جيبوتي، وهي الأولى في بلد أجنبي. هذا يفسر لماذا تعد الصين أكبر ممول في جيبوتي، حيث تمتلك حوالي نصف الدين العام في البلد، بحسب أرقام صندوق النقد الدولي.
ناميبيا
تجمع القوات البحرية الناميبية والصينية علاقة عسكرية خاصة ترجع إلى دعم الصين لحرب استقلال ناميبيا ضد جنوب أفريقيا. وبعض الأصول البحرية الأكثر تطوراً في ناميبيا تحمل البصمة الصينية، بما في ذلك طائرتا دورية بحريتان تسلمتهما في أكتوبر (تشرين الأول) 2017.
يعد خليج والفيس في ناميبيا مركزًا إستراتيجيًا على طول طريق الحرير البحري، شهد العديد من زيارات الجيش الصيني والتدريبات البحرية في السنوات الأخيرة. وتكهنت الصحافة الناميبية بأن الصين تسعى إلى تدشين منشآت بحرية في خليج والفيس على غرار جيبوتي، مشيرة إلى أوجه التشابه مع الطريقة التي استخدمتها الصين للحصول على قاعدة في جيبوتي.
تنزانيا
بدعم تشاينا ميرشانتس هولدينجز «إنترناشونال» أكبر شركة لإدارة الموانئ في الصين وصندوق الاحتياطي العام للدولة في سلطنة عمان، بدأت تنزانيا في أكتوبر 2015 إنشاء ميناء باجامويو ومنطقة اقتصادية خاصة بتكلفة 10 مليارات دولار. تقوم الشركة الصينية بمعظم الأعمال الإنشائية، في المشروع الذي وصفته وكالة إيكوفن بأنه «أهم مشروع بناء في العقود الأربعة الأخيرة من العلاقات الصينية – التنزانية»، وقد يصبح هذا الميناء الصغير لصيد الأسماك، على بعد حوالي 45 ميلًا شمال دار السلام، أكبر ميناء للحاويات في أفريقيا خلال السنوات العشر القادمة.
مصر
كانت شركة «China Harbour Engineering Company Ltd» هي أول شركة صينية تحصل على عقد لإنشاء ميناء في مصر. وفي سبتمبر (أيلول) عام 2008، حصلت الشركة على عقد للمرحلة الثانية من بناء أرصفة الحاويات لبورسعيد المصرية (بقيمة 220 مليون دولار) وعقد مشروع دمياط (بقيمة 160 مليون دولار).
وفي يوليو (تموز) عام 2012، وقعت شركة هاربور الصينية اتفاقية الامتياز مع جمعية الموانئ للبحر الأحمر وشركة الاستثمار لميناء الأدبية. وفي مارس (آذار) عام 2015، شاركت الشركة كمقاول رئيسي ومشغل في هندسة توسيع الإنشاء لميناء السخنة وميناء دمياط (بقيمة 6 مليار دولار)، الأمر الذي يمثل اختراقًا كبيرًا للشركات الصينية المشاركة في بناء الموانئ البحرية المصرية.
فرص الصين الإستراتيجية لاستغلال البنية التحتية للموانئ الأفريقية
هذه الشبكة من الموانئ والبنية التحتية صينية الصنع، على طول سواحل أفريقيا الشرقية والغربية والجنوبية، جعلت بكين لاعبًا رئيسيًا في الفضاء البحري الأفريقي. تسمح ملكية أو تشغيل الموانئ للصين بجمع المعلومات الاستخباراتية، ومنع الخصوم الدوليين – خاصة الولايات المتحدة – من الوصول إلى الأراضي أو الخدمات (مثل ميناء جيبوتي)، ونشر السفن العسكرية.
وتوفر المعرفة الفنية والخبرة في تشغيل الموانئ المنتشرة في أنحاء المنطقة عمقًا إستراتيجيًا للصين يمكنها من نشر أسطولها البحري وتزويده بالوقود خلال فترات النزاع.
ويسمح التمويل للصين بمنح الأولوية لشركات البناء الصينية، ويعزز موقفها في التفاوض للسيطرة على العمليات والحصول على الموارد، وربما يفتح الباب أمام المزيد من التنازلات إذا تأخرت البلدان الأفريقية عن سداد الديون.
على سبيل المثال ضمنت الصين حق إرساء السفن العسكرية في سيشيل من خلال اتفاقية عسكرية ثنائية منفصلة. ذلك أن حقوق التشغيل التقليدية لا تجبر أي حكومة أفريقية على السماح للسفن العسكرية الصينية بالرسو في مياهها.
التحولات الإستراتيجية والسياسة الناشئة
تخدم أفريقيا إستراتيجية الصين الكبرى بثلاث طرق رئيسة:
أولًا تمثل القارة فرصة لاستعادة مكانة الصين المتصورة، بموازاة تقليص التزامات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على الساحتين الأفريقية والعالمية. كما أن الدعم الأفريقي للمواقف الصينية في الأمم المتحدة والهيئات الأخرى يفيد في تعزيز صوت الصين على المسرح العالمي.
ثانيًا تمثل أفريقيا محورًا إستراتيجيًا في الجزء البحري من مبادرة الحزام والطريق. ويعد تعاون الصين البحري المتزايد مع أفريقيا، من خلال بناء الموانئ والبنية التحتية ودوريات مكافحة القرصنة، جزءًا من هذه الإستراتيجية الجيوسياسية والاقتصادية الأوسع.
ثالثًا، تدرك الحكومة الصينية الحاجة إلى حماية العدد المتزايد من المغتربين الصينيين الذين يعملون في مشاريعها المتعلقة بمبادرة الحزام والطريق في جميع أنحاء أفريقيا، والذين يبلغ عددهم حوالي 300 ألف.
تعتبر الصين المزود الأول للأسلحة إلى أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تمثل 27% من واردات المنطقة بين عامي 2013 و2017، بزيادة قدرها 55% عن الفترة 2008 – 2012، وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام.
وفي عام 2015 أصدرت الصين قانونًا يسمح بنشر قوات «جيش التحرير الشعبي (PLA)» وقوات الأمن الأخرى في الصين، بما في ذلك الشرطة الشعبية المسلحة، إلى ما وراء البحار.
بعدها بعامين، فتحت بكين أول قاعدة بحرية خارجية في جيبوتي. وفي يوليو 2018، شيد جيش التحرير الشعبي الصيني مرافق إضافية في القاعدة. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) أجرى الجيش الصيني مناورات حربية حية هناك، باستخدام مركبات قتال مدرعة ومدفعية ثقيلة، وهي المرة الأولى التي تجري فيها بكين مناورات على هذا النطاق على أرض أجنبية.
وفي الشهر ذاته، أجرت طائرات الهليكوبتر التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني تدريبات ضخمة لإجلاء ضحايا الحرب من فرقاطة قبالة ساحل جيبوتي، وهو ما يسلط الضوء على قدرات الصين الجوية والبرية المتطورة في المنطقة، بالإضافة إلى أصولها البحرية.
توسيع موانئ أفريقيا.. فوائد متبادلة وسلاح ذو حدين
تعتبر مشاريع توسيع موانئ أفريقيا وإعادة تأهيلها عاملًا رئيسًا في تعزيز النمو والتنمية في أفريقيا، التي تعتمد 90% من صادراتها على الموانئ. ومن المتوقع أن تسهم الاستثمارات الصينية – التي تهدف إلى معالجة الازدحام وتطوير البنية التحتية التي عفا عليها الزمن، وبالتالي أصبحت تقيد الآن تدفقات التجارة في القارة – في نمو الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي.
لكن من الضروري التمييز بين موانئ أفريقيا ذات الأبعاد الأمنية وتلك التي توفر مكاسب تجارية بحتة. فكما تدعم مشاريع الموانئ النمو في أفريقيا، فإنها تعزز صورة الصين كشريك في التنمية وتقوي نفوذها السياسي، وقد تخلق أيضًا تهديدات محتملة للسيادة الأفريقية، في ظل سعي الصين لإحياء وجودها الإستراتيجي حول العالم والهيمنة على البحار والمحيطات.
مثلما فعلت بريطانيا مع الهند، والولايات المتحدة مع اليابان، تنسج الصين فخاخًا اقتصاية- يسميها الخبراء: «القاتل الاقتصادي» و«الفيل الأبيض» – لإثقال البلاد النامية بالديون من أجل مشروعات اقتصادية غير مجدية على أرض الواقع، حتى تعجز عن السداد، وتحصل بكين في النهاية على بوابات تلك البلاد البحرية لأجل طويل.
ميناء مومباسا في كينيا يواجه هذا المصير، في ظل تعثر الحكومة الكينية عن سداد ديونها المتراكمة بالمليارات لبنك إكسيم الصينى. وتصنف كينيا من بين البلدان الأكثر تعرضًا لخطر فقدان الأصول الإستراتيجية لصالح الصين، بسبب الديون التي بلغت 558.8 مليار شيلينج كينى (5.55 مليار دولار).
يحوم القلق أيضًا حول ميناء دوراليه متعدد الأغراض الأكثر أهمية في المنطقة، نظرًا لقربه من نقطة تفتيش بحرية وقاعدة عسكرية أمريكية. ورغم تأكيد حكومة جيبوتي مرارًا وتكرارًا أنها وحدها التي تسيطر على الميناء، ولا تخطط للتنازل عن أصولها البحرية لصالح المشغلين الصينيين، لكن بعض المسؤولين الأمريكيين أعربوا عن قلقهم من أنها قد تكون مسألة وقت فقط قبل حدوث ذلك.
وحذر الجنرال مارين والدهاوسر، أكبر ضباط البحرية الأمريكية في أفريقيا، خلال جلسة استماع في الكونجرس العام الماضي من أن الجيش الأمريكي قد يواجه عواقب وخيمة إذا استولت الصين على ميناء جيبوتي. توفر هذه البوابات البحرية للسفن الصينية الأولوية في المناولة وتقلل رسوم الرسو؛ مما يمنح شركات النقل الصينية وعملاءها ميزة تنافسية لتسليم أكبر قدر من البضائع في أقصر وقت إلى الأسواق الأوروبية.
تصر الصين على أن كل هذه المخاوف جزء من «البروباجاندا الغربية»، التي تشوه مشروع الحزام والطريق باعتباره «حصان طروادة» لا يقتصر على المشاريع التنموية، بل التمدُّد العسكري. بيد أن هذه المخاوف لا تقتصر على الغرب، فقد رفض الرئيس الماليزي مهاتير محمد عرضا بـ23 مليار دولار، ضمن المبادرة الصينية في مشروع الحزام والطريق؛ لأن «الصين تتفاوض على صفقات غير متوازنة» بحسبه.
المصدر: sasapost