في أعماق المحيطات والبحار، حيث يسود الظلام ويغيب البشر، تتوارى عوالم مدهشة مليئة بالأسرار، من بين أبرزها الجبال البحرية التي ترتفع من قيعان المحيطات لتشكل مشاهد طبيعية خارقة وغير مرئية للعين المجردة. هذه الجبال ليست مجرد تضاريس تحت الماء، بل هي أنظمة بيئية نابضة بالحياة، تؤثر على تيارات المحيط، وتجذب أنواعا نادرة من الكائنات البحرية، وتشكل في بعض الأحيان ملاذات لأنواع مهددة بالانقراض.
يُقدر العلماء أن هناك أكثر من مئة ألف جبل بحري منتشرة في مختلف أنحاء الكوكب، أغلبها لم يُستكشف بعد. وتتشكل هذه الجبال في الغالب نتيجة النشاط البركاني تحت سطح البحر، وقد يصل ارتفاع بعضها إلى آلاف الأمتار، ليتجاوز حتى ارتفاع جبال فوق اليابسة. ومن بين أشهرها جبل “ماونا كيا” في هاواي، الذي لو قيس من قاعدته في قاع المحيط إلى قمته، لكان أعلى جبل على وجه الأرض متفوقًا على جبل إيفرست.
تتميز هذه الجبال بنظام بيئي فريد، حيث تُحدث اضطرابات في تيارات المياه تدفع بالعناصر الغذائية من الأعماق نحو السطح، مما يجعلها مناطق غنية بالحياة البحرية. وغالبًا ما تجذب أنواعًا مثل أسماك التونة، والحيتان، وأسماك القرش، والشعاب المرجانية، كما تشكل ملاذًا للطيور البحرية التي تعتمد على وفرة الأسماك في تلك المناطق.
الاهتمام العلمي بهذه الجبال تزايد خلال العقود الأخيرة، خصوصًا بعد اكتشاف أن بعضها يضم بيئات حرارية مائية تحتوي على كائنات لا تحتاج إلى الضوء للبقاء، بل تعيش على طاقة مستمدة من تفاعلات كيميائية في أعماق مظلمة، وهو ما فتح المجال لتكهنات علمية مثيرة حول إمكانية وجود حياة مشابهة في عوالم أخرى خارج كوكب الأرض.
رغم ذلك، تبقى هذه الجبال عرضة للتهديد بسبب الصيد الجائر والتعدين البحري العشوائي، حيث تُستخدم معدات مدمرة تستنزف الموارد البيولوجية وتقضي على موائل فريدة استغرق تشكلها آلاف السنين. لهذا تنادي منظمات بيئية وعلماء المحيطات بضرورة إعلان بعض هذه الجبال كمناطق محمية بحرية، لضمان استمرارية توازن النظم البيئية في المحيطات.
إن أسرار الجبال البحرية لا تزال تُكتب فصولها مع كل رحلة علمية جديدة، وكل اكتشاف يؤكد أن أعماق البحار تخفي أكثر مما نظن، وأن ما لا نراه قد يكون أكثر روعة من كل ما نعرفه على سطح الأرض